قراءة حول المؤشر وأبعاده الاستراتيجية وانعكاساته على المستقبل الرقمي للمملكة
 الأستاذ الدكتور إبراهيم الجراح/ رئيس قسم الذكاء الاصطناعي

 

يمثل إطلاق المؤشر الوطني للذكاء الاصطناعي في المملكة العربية السعودية خطوة استراتيجية فارقة، تجسد نضج الرؤية الوطنية وتصميم الدولة على تسريع التحول نحو اقتصاد قائم على المعرفة والابتكار، فهذه المبادرة التي تقودها الهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي (سدايا)، لا تُعد مجرد أداة قياس، بل بوصلة وطنية تنظم وتوجه وتوحد الجهود الحكومية في تبني تقنيات الذكاء الاصطناعي بما ينسجم مع الطموحات العريضة لرؤية السعودية 2030. 

يقوم المؤشر، في جوهره، على إطار عمل شامل وموحد؛ لتقييم جاهزية الجهات الحكومية ونضجها في تبني حلول الذكاء الاصطناعي، متجاوزاً التقييمات السطحية إلى فحص وتشخيص القدرات المؤسسية عبر هيكلية متينة قوامها ثلاث ركائز: التوجهات التي تغطي الاستراتيجية والحوكمة. والممكنات التي تشمل البيانات والبنية التحتية والقدرات البشرية. والمخرجات التي تقيس التطبيقات الفعلية والأثر الملموس. وتتفرع هذه الركائز إلى سبعة محاور رئيسية وثلاثة وعشرين مجالاً فرعيًّا يجري تقييمها من خلال ستة وعشرين سؤالاً دقيقاً مدعوماً بأكثر من 480 دليلاً، بما يضمن شمولية القياس وعمقه، ولا يقتصر دور المؤشر على تحديد موقع كل جهة على خريطة النضج الرقمي، بل يمتد لتزويدها بتوصيات عملية وخطط تطوير مخصصة، تمكّنها من تعزيز مواطن القوة ومعالجة فجوات التحسين وتسريع رحلتها نحو التحول الذكي. 

تتجلى الأهمية الاستراتيجية للمؤشر في ارتباطه الوثيق بأهداف رؤية السعودية 2030؛ إذ تشير التقديرات إلى أنَّ 66 هدفاً من أصل 96 هدفاً للرؤية يرتبط بالبيانات والذكاء الاصطناعي بصورة مباشرة أو غير مباشرة؛ وهو ما يؤكد المكانة المركزية لهذه التقنيات في مستقبل المملكة، ويأتي المؤشر هنا بوصفه أداة تنفيذية حيوية؛ لضمان أنَّ الاستثمارات الضخمة تتحول إلى قيمة اقتصادية واجتماعية حقيقية؛ حيث تتوقع مؤسسات عالمية، مثل برايس ووترهاوس كوبرز أن يسهم الذكاء الاصطناعي بنحو 135.2 مليار دولار في الناتج المحلي الإجمالي للمملكة بحلول 2030، أي: ما يقارب 12.4% من اقتصادها، وبذلك سوف يعمل المؤشر محفزاً ومنظِّماً لهذا النمو عبر توجيه الجهات لتبنّي حلول مبتكرة، ترفع من كفاءة العمليات وتحسن جودة الخدمات، وتعزز الإنتاجية وتخلق ميزة تنافسية مستدامة للاقتصاد الوطني، ويضع إطار حوكمة واضح يوازن بين الابتكار والمسؤولية الأخلاقية، ويعزز الثقة بالتقنيات الناشئة ويدعم طموح المملكة لأن تكون مركزاً عالميًّا رائداً. 

تقوم عملية القياس للمؤشر على اتباع آلية عبر ثلاث خطوات رئيسية تشمل ورشاً توعوية للجهات الحكومية، يعقبها استبانة شاملة يتم دعّماه بالوثائق، ثم تحليل وتدقيق للبيانات، وبناءً على النتائج تُصنَّف الجهات إلى ستة مستويات نضج، تبدأ من غياب القدرات (0)، ثم البناء (1)، والتفعيل (2)، والتمكن (3)، والتميز (4)، وصولاً إلى الريادة (5)، وهو تصنيف لا يمثل حكماً نهائيًّا، بقدر ما يشكل نقطة انطلاق لرحلة تطوير مستمرة، تمنح كل جهة فهماً دقيقاً لوضعها الحالي وخارطة طريق للارتقاء بقدراتها وتعظيم أثرها. 

يحمل المؤشر في طياته دلالات تحليلية عميقة؛ فالذكاء الاصطناعي لم يعد خياراً ترفيًّا، بل ضرورة استراتيجية تستوجب مواءمة الخطط والمبادرات مع التوجهات الوطنية التي يرسمها المؤشر، والانتقال من المشاريع التجريبية المحدودة إلى تبنٍّ منهجي يضع الذكاء الاصطناعي في صميم العمليات والخدمات، مع مواجهة تحديات جوهرية، أبرزها جودة البيانات وحوكمتها، وسد فجوة المهارات، وبناء بنية تحتية تقنية قوية ومرنة؛ وبقياس هذه الجوانب يوفّر المؤشر أساساً علميًّا لتوجيه الاستثمارات نحو الأولويات، وتصميم برامج فعالة لبناء القدرات، ووضع سياسات تنظيمية تسرّع الابتكار مع ضمان الاستخدام المسؤول والآمن. 

وفي هذا السياق، يتعين على الجهات إدراك أنَّ المؤشر ليس استبانةً تُملأ ولا تقييماً سنويًّا يُجتاز، بل منارة استراتيجية تتطلب التزاماً يبدأ من قمة الهرم الإداري، ويمتد إلى كل المستويات التنظيمية، بما في ذلك إعادة صياغة الرؤية الاستراتيجية، بحيث يغدو الذكاء الاصطناعي جزءاً عضويًّا من الهوية المؤسسية والأهداف طويلة المدى، وتخصيص موازنات مستدامة، وإنشاء هياكل واضحة؛ لقيادة التحول، وتأسيس أطر حوكمة تُعلي من المبادئ الأخلاقية والامتثال والخصوصية والأمن السيبراني، والشفافية والمساءلة في القرارات المعتمدة على الخوارزميات. 

وعلى صعيد البيانات، يثبت المؤشر أنَّ جودة أي حل ذكي مرهونة بجودة البيانات؛ وهو ما يستدعي الاستثمار في بنية تحتية متقدمة لإدارتها، تشمل الجمع والتنظيف والتوحيد والتخزين الآمن القابل للوصول، وإرساء ثقافة تعتبر البيانات أصلاً استراتيجيًّا  تُطبّق عليه معايير صارمة للدقة والتكامل والاتساق، وتوثيق المصادر وحقوق الاستخدام، إلى جانب آليات فعالة للتبادل والتكامل بين الجهات لكسر العزلة المعلوماتية، وبناء حلول أكثر شمولاً وفاعلية، مع تطوير قدرات التحليلات المتقدمة وتطبيقات التعلم الآلي لاستخلاص رؤى تدعم القرار وتحسن الخدمات باستمرار. 

وعلى مستوى البنية التحتية التقنية، يحدد المؤشر معايير لقدرات الحوسبة والشبكات والتخزين اللازمة لدعم تطبيقات الذكاء الاصطناعي، بما يشمل تقييم الوضع الراهن وتحديثه؛ لتلبية أحمال النماذج الحديثة – خاصة نماذج الذكاء الاصطناعي التوليدي والتوكيلي – سواء بالاستثمار في خوادم عالية الأداء مزودة بوحدات معالجة رسومية، أو بالاستفادة من الحوسبة السحابية المرنة المتوافقة مع المنصات الوطنية والمعايير الفنية المعتمدة في المملكة، مع متطلبات للمرونة التشغيلية واستمرارية الخدمة وآليات النسخ الاحتياطي، والتعافي من الكوارث وأنظمة المراقبة الاستباقية التي تضمن توافراً عاليًا يفوق 99.5% سنويًّا. 

ورغم محورية التقنية والبيانات، يبقى الإنسان حجر الزاوية؛ لذا يشدد المؤشر على بناء قدرات بشرية متخصصة عبر استراتيجيات متكاملة؛ لاستقطاب المواهب ببرامج توظيف تنافسية وشراكات مع الجامعات والمعاهد لتأهيل الكوادر الوطنية، والاستثمار في برامج تطوير مهني متقدمة، وشهادات معتمدة تتسق مع الإطار الوطني للمؤهلات، وتهيئة بيئة عمل حاضنة للابتكار والتجريب والنمو الوظيفي؛ لضمان الاستقرار والحد من هجرة الكفاءات. ويوفر المؤشر للجهات خارطة طريق عملية من الوضع الراهن إلى المأمول؛ إذ لا تقتصر النتائج على درجة رقمية، بل تتضمن تشخيصاً دقيقاً لنقاط القوة والضعف عبر كل محور؛ الأمر الذي يمكّن القيادات من وضع خطط تطوير مستهدفة تحدد الأولويات والمبادرات، والموارد والجداول الزمنية والمسؤوليات، محوّلاً التطوير من مسار عشوائي إلى نهج منظم يضمن أن يسهم كل استثمار في تعزيز الجاهزية وتحقيق أثر ملموس. 

وإلى جانب ذلك، يوفر المؤشر آلية للمقارنة المعيارية تمكّن الجهات من فهم موقعها النسبي وطنيًّا ودوليًّا، وتحفّز التعلم المتبادل ونقل أفضل الممارسات، بما يسرّع التطور الجماعي، ويرفع النضج العام للمنظومة الوطنية للذكاء الاصطناعي، بينما تسمح دورات القياس الدورية بمتابعة التقدم، وقياس فاعليةالمبادرات وتعزيز ثقافة التحسين المستمر والمساءلة المرتكزة إلى النتائج. وبهذا المعنى، يغدو المؤشر أداة تمكين شاملة ترافق الجهات في كل مرحلة من رحلتها نحو النضج الرقمي الحقيقي، بحيث  يوجّه الجهات في المراحل الأولية لترسيخ الأساسيات، ويساعد الجهات المتمكنة على تعميق التكامل، وتوسيع التطبيقات وقياس الأثر بدقة، والانتقال من المبادرات المحدودة إلى التحول المؤسسي الشامل، ويحفّز الجهات الرائدة على الابتكار المستمر واستكشاف التقنيات الناشئة وصياغة حلول رائدة تُحتذى وطنيًّا وإقليميًّا. 

كما يمتد دور المؤشر إلى تعزيز الشفافية والمساءلة في الأداء الحكومي عبر معايير موحدة، يمكن ربطها بمؤشرات الأداء المؤسسي، بما يخلق ضغطاً إيجابيًّا لإعطاء الأولوية لمبادرات الذكاء الاصطناعي، وتخصيص الموارد الكافية لها، فيما يتيح نشر النتائج للمهتمين والباحثين وصناع السياسات فهماً واقعيًّا لمستوى التبني ويدعم اتخاذ قرارات مبنية على بيانات. 

وفي المحصلة، يمكن تشبيه هذا المؤشر بالمصباح الذي ينير دروب الجهات في رحلة نحو المستقبل الرقمي؛ فهو يكشف الطريق ويحذر من المطبات، ويرشد إلى المسارات الفضلى، لكنه يتطلب إرادة والتزاماً واستثماراً وشجاعة لتبنّي الابتكار وتحمل المخاطر المحسوبة؛ إذ إنَّ الجهات التي تتفاعل بجدية وتستثمر في تطوير قدراتها وفق توصياته ستتمكن من تقديم خدمات أفضل ورفع كفاءة عملياتها، والمساهمة في بناء اقتصاد وطني متنوع قائم على المعرفة والابتكار، بينما الجهات التي تتعامل معه شكليًّا سوف تتأخر عن ركّب التطور وتفوتها فرص الذكاء الاصطناعي الهائلة؛ وعليه، فإنَّ المؤشر الوطني للذكاء الاصطناعي يتجاوز كونه أداة تقييم إلى كونه تجسيداً لفلسفة استراتيجية متكاملة لبناء مستقبل رقمي واعد للمملكة، فهو بمنهجيته العلمية وهيكله الشامل يوفر لغة مشتركة وإطاراً موحداً لقيادة وتسريع تبني الذكاء الاصطناعي، ويعبّر عن التزام واضح بتحويل الطموحات إلى منجزات ملموسة، وترسيخ اقتصاد متنوع مستدام، وتعزيز مكانة المملكة بوصفها قوة مؤثرة في التقنيات المتقدمة، ومع تعاقب دورات القياس، يُنتظر أن يكون هذا المؤشر المحرك الرئيس لرحلة التحول الذكي، وضمان وصول ثماره إلى الجميع، بما يحقق الرفاه والازدهار للمجتمع السعودي، وهي رحلة تتطلب تضافر جهود القيادات الحكومية والممارسين التقنيين والأكاديميين والقطاع الخاص بروح واحدة نحو هدف مشترك: بناء مملكة رقمية رائدة تستثمر الذكاء الاصطناعي لخدمة الإنسان وتحقيق التنمية المستدامة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *