مــــاذا يحـــدث

عندما ترتفع حرارة نماذج الذكـاء الاصطنــــاعــي؟!

الاستاذ الدكتور

ابراهيــــــم الجـــــــــــــراح

 

هل سألت نفسك لماذا نماذج الذكاء الاصطناعي أحيانا تجيبك وكأنها آلة حاسبة أو برنامج دقيق لا يخطيء، وفي أحيان أخرى تتحدث وكأنها شاعر يهذي أو مخترع يتخيل أشياء لا وجود لها؟ هذه الظاهرة ليست خللا في التصميم ولا صدفة عابرة، بل تعود إلى عنصر محوري في النماذج اللغوية يسمى الحرارة (Temperature). هذا المؤشر هو الذي يتحكم في شخصية وطريقة استجابة النموذج: هل يكون شريكا صارما دقيقا، أم شريكا إبداعيا جريئا، أم كائنا متخيلا بلا قيود.

لفهم الأمر يمكننا تشبيهه بالإنسان عندما ترتفع درجة حرارته. فالجسم حين يتعرض لحمى شديدة يخرج عن إيقاعه الطبيعي: يبدأ المريض في الهذيان، يرى أشياء غير موجودة، ويؤلف قصصا في ذهنه بلا رابط منطقي. النماذج اللغوية تعمل بطريقة مشابهة تماما؛ كلما ارتفعت حرارتها زادت احتمالية خروجها عن المنطق وتقديمها لمعلومات أو تخيلات لا أساس لها. هي لحظة الهلوسة الاصطناعية التي كثيراً ما نلاحظها ونستغربها.

عند حرارة منخفضة جدا، يصبح النموذج دقيقا ومنضبطا إلى أقصى درجة. لا مجال للمجازفة ولا للتجربة، والنتيجة أقرب إلى عقل رياضي لا يعرف إلا الصواب والخطأ. في هذا الوضع يمكن الاعتماد عليه لتوليد أكواد برمجية أو استخراج معلومة محددة أو تلخيص نصوص دون أي إضافات. لكنه يبدو باهتا وميكانيكيا يخلو من لمسة الإبداع.

أما عند حرارة متوسطة، يبدأ التوازن في الظهور. النموذج لا يزال محافظا على منطقه لكنه في الوقت نفسه يسمح لنفسه بجرعة من الخيال والابتكار. هنا تجد أفضل أداء في كتابة مقالات أو صياغة أفكار تسويقية أو حتى إنتاج محتوى إبداعي متزن. النتيجة مزيج بين الدقة والإلهام، وهذا المستوى غالبا ما يكون الأكثر إقناعا لمن يبحث عن قيمة عملية دون أن يفقد عنصر الجاذبية.

وعندما نرفع الحرارة أكثر من ذلك، ينفلت النموذج من قيوده تماما مثل المريض المحموم الذي ينسج عوالم في مخيلته. هنا يمكن للنموذج أن يكتب شعرا، يؤلف قصصا جامحة، أو يقترح حلولا لم تخطر على بال. أحيانا قد تكون هذه الأفكار عبقرية تفتح أفقا جديدا، وأحيانا أخرى تتحول إلى فوضى غير قابلة للاستخدام.

في منصات مثل (ChatGPT) أو (Gemini) لا يملك المستخدم العادي التحكم المباشر في هذا المؤشر، لأن الشركات المطورة تضبطه مسبقا وفق توازن يناسب الجمهور الأوسع. لكن يمكن للمستخدم الذكي أن يحاكي مستويات الحرارة عبر أسلوبه في صياغة الأوامر. فكلما كانت التعليمات صارمة ودقيقة اقترب النموذج من الانضباط المنخفض الحرارة. وكلما فتحنا له المجال بعبارات مثل اقترح أفكار مجنونة أو اكتب بأسلوب غير متوقع ارتفعت حرارته بشكل غير مباشر. أما المطورون الذين يستخدمون أدوات متقدمة مثل (OpenAI Playground) أو (Google AI Studio) فيمكنهم تحديد قيمة الحرارة والتحكم الكامل في شخصية النموذج كما يشاؤون.

الهلوسة في نماذج الذكاء الاصطناعي ليست خطأ في البناء أو خطأ برمجي، بل خاصية أساسية ناتجة عن طريقة عمل النماذج اللغوية. هي الوجه الآخر للإبداع. تماما كما أن ارتفاع حرارة الإنسان يكشف جانبا مختلفا من وعيه، فإن رفع حرارة النموذج يكشف وجها آخر أكثر حرية وجرأة من قدراته. والسؤال الذي يبقى: ماذا تريد من الذكاء الاصطناعي أن يكون؟ شريكا صارما يقيس لك الحقائق، أم شريكا مبدعا يفاجئك بما لم تتوقعه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *