د. خالد بن محمد الجارالله

رئيس قطاع الاستشارات الأكاديمية وبناء القدرات  كايزن للاستشارات

 يوليو 8, 2025

مقدمة

في خضم التحولات التقنية المتسارعة الذي يتصدر مشهدها الذكاء الاصطناعي ومنتجاته المذهلة، يبرز التساؤل: هل يستطيع الذكاء الاصطناعي أن يحلّ محل الكوادر البشرية في بناء القيم وتمكينها داخل المنظمات؟
قد يبدو هذا التساؤل منطقيًا أمام قدرات الذكاء الاصطناعي الهائلة في تحليل البيانات والتنبؤ بالسلوكيات، لكن التعمق في طبيعة القيم المؤسسية ومنهجياتها المتاحة (منهجية الرواد أنموذجاً) يبرز حدوداً لا يمكن للآلة تجاوزها.

القيم المؤسسية: بناء إنساني

طبيعة القيم

فالقيم ليست بيانات؛ بل مبادئ حية تشكّل قرارات المؤسسة وسلوك أفرادها، تقوم على فهم إنساني عميق للبيئة الداخلية والخصائص المجتمعية، وتتطلب قدرًا عاليًا من التفاعل العاطفي، والقدوة القيادية، والتمكين العملي للسلوكيات اليومية.

محورية الدور البشري

وهذا المفهوم يتجلى في فلسفة الرواد لبناء وتمكين القيم، التي ركزت على محورية دور القائد أو المعلم أو الوالد (الإنسان) في بناء القيم وتمكينها، لذا فإن الحديث عن (استبدال) المستشار المتخصص في هذا المجال بذكاء اصطناعي هو تبسيط مخلّ لدور معقد وحيوي.

دور الذكاء الاصطناعي في تمكين القيم

ما الذي يمكن للذكاء الاصطناعي القيام به في هذا المجال؟
يستطيع الذكاء الاصطناعي أن يكون أداة داعمة قوية في تحليل الثقافة التنظيمية، ورصد مدى التفاعل مع القيم، وتقديم توصيات مبنية على البيانات، وهي أمور تحتاج إلى تدخل بشري أيضًا، وعلى سبيل التحديد، يمكن للذكاء الاصطناعي أن يقوم بـ:

  • رصد فجوات السلوك.
  • اقتراح ممارسات تواصل داخلي أكثر تأثيرًا.
  • متابعة التغيرات في الاتجاهات الثقافية.

لكنه سيبقى أداةً مساندة لا بديلًا، لا يستطيع أن يفعّل الحوار العميق، أو يُلهِم القيادة، أو يُفسّر السياقات البشرية الدقيقة، وهنا يأتي دور المستشار الذي يفهم الإنسان قبل النظام، والثقافة قبل الأرقام.

منهجية الرواد لتمكين القيم

الإطار العام

على سبيل المثال: تقدم (منهجية الرواد لتمكين القيم) تصورًا شموليًا يرتكز على خمس ركائز مترابطة، تؤكد أن بناء القيم وتمكينها لا تنفك عن الجانب البشري الإنساني. يقول د. سعد الخلف في كتابه (فلسفة القيم، ص28):
“القيم ليست مجرد مهارات وظيفية تقنية فقط، بل تستند إلى إيمان الفرد بها؛ لذا فإن اكتساب الفرد قيمة ما، لا يتحقق إلا بإشراكه بعملية تمكينها، وبتحول القيمة لديه إلى قناعة شخصية، وموجه سلوكي يبني عليه اختياراته ومواقفه”.

الركائز الخمس

ومن خلال تطواف سريع على الركائز الخمسة للمنهجية، يمكننا تقريب الفهم لما يمكن الذكاء الاصطناعي المساعدة فيه وما لا يمكنه كذلك:

  1. التكوين
    ويتضمن أدلة إجرائية لتكوين منظومة قيم المؤسسة أو تطويرها وموائمتها مع طبيعة جل العاملين وهنا يكون دور المستشار محوريًا في فهم السلوكيات والتوجهات لضمان اتساق منظومة القيم مع العاملين.
  2. التأطير
    وهو إطار مرجعي مفاهيمي لكل قيمة، يراعي الأبعاد الأربعة للقيمة؛ المعرفة، الانفعال، الاعتقاد، السلوك، وللذكاء الاصطناعي دور فيه إذا توفرت البيانات عن طبيعة المؤسسة وأفرادها وقطاعها.
  3. القياس
    وهي مقاييس كمية ونوعية للقيم، وتتضمن مقابلات شخصية لا يستغنى فيها عن العنصر البشري. ويمكن للذكاء الاصطناعي تحليل الاتجاهات والأنماط، لكنه لا يفسّر النتائج، بل يحتاج إلى تأويل بشري دقيق.
  4. التطبيق
    ويشمل تفعيل القيم بأدوات تمكينها، بما في ذلك السياسات، والعمليات اليومية، وتضمينها في تجربة الموظف. هنا تبرز الحاجة إلى التوجيه الإنساني والقيادي، الذي لا يمكن محاكاته آليًا بشكل كامل.
  5. الاستدامة
    وتتضمن التحسين المستمر بحيث تصبح القيم جزءًا من الحمض النووي للمؤسسة، ويمكن للذكاء الاصطناعي تتبّع المؤشرات التي ترصد الالتزام المستمر بقيم المؤسسة.

الذكاء الاصطناعي: شريك وليس بديلاً

لذا، فيمكن تصوير الذكاء الاصطناعي ليس مساعداً وإنما جيش من المساعدين، إلا أن هذا الجيش لا يكفي، ولا بد له من توفر العدة والعتاد، بالإضافة إلى حاجته إلى قيادة بشرية شجاعة حكيمة تظهر وتضمر، تتراجع أحياناً رغم أن المعطيات (البيانات) تشجع على التقدم، وتتقدم رغم أن المؤشرات تنذر بمخاطر.

الخلاصة

إن الذكاء الاصطناعي لا يمكن – حالياً على الأقل – أن يكون بديلاً عن المستشار بل حسبه أن يكون شريكاً داعماً؛ لأن البعد الإنساني، المتصل بالقيم طبيعةً، لا يمكن أتمتته أو اختزاله في خوارزميات أو أدوات تحليل؛ ولأن الذكاء الاصطناعي حالياً مثل طفل صغير يصيب ويخطئ ويحتاج توجيه والديه حتى يكبر الصبي ويكون هو من يقود أبويه ويوجههم، فقد يكون الذكاء الاصطناعي هو الصبي حالياً الذي سيكبر ويتطور ليخترق حاجز الطبيعة الإنسانية ويحاكيها تماماً.

1 thoughts on “هل يمكن للذكاء الاصطناعي تمكين القيم المؤسسية بدلاً عن الاستشاري؟

  1. يقول المستشار محمد آل عواض:

    ما شاء الله تبارك الرحمن تفصيل و تأصيل من المستشار الأصيل و في الوقت المناسب الجميل
    شكرا لك بحجم السماء د خالد على هذا السرد الموفق والذي نحتاجه بقوة في ظل الافتتان التام بقوة الذكاء الاصطناعي وانه قد أغلق دور العقل البشري

    شكرا لكم كايزن العظيمة دائما تبهروننا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *